فصل: الحديث السابع عشر

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: بهجة قلوب الأبرار وقرة عيون الأخيار في شرح جوامع الأخبار **


 الحديث الخامس عشر

عن عائشة رضي الله عنها‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏أنزلوا الناس منازلهم‏)‏ رواه أبو داود‏.‏

يا له من حديث حكيم‏.‏ فيه الحث لأمته على مراعاة الحكمة‏.‏ فإن الحكمة وضع الأشياء مواضعها، وتنزيلها منازلها‏.‏ والله تعالى حكيم في خلقه وتقديره، وحكيم في شرعه وأمره ونهيه وقد أمر عباده بالحكمة ومراعاتها في كل شيء وأوامر النبي صلى الله عليه وسلم وإرشاداته كلها تدور على الحكمة‏.‏

فمنها‏:‏ هذا الحديث الجامع، إذ أمر أن ننزل الناس منازلهم‏.‏ وذلك في جميع المعاملات، وجميع المخاطبات‏.‏ والتعلم والتعليم‏.‏

فمن ذلك‏:‏ أن الناس قسمان‏:‏ قسم لهم حق خاص، كالوالدين والأولاد والأقارب، والجيران والأصحاب والعلماء، والمحسنين بحسب إحسانهم العام والخاص‏.‏ فهذا القسم تنزيلهم منازلهم‏:‏ القيام بحقوقهم المعروفة شرعاً وعرفاً، من البر والصلة والإحسان والتوقير والوفاء والمواساة، وجميع ما لهم من الحقوق، فهؤلاء يميزون عن غيرهم بهذه الحقوق الخاصة‏.‏

وقسم ليس لهم مزية اختصاص بحق خاص، وإنما لهم حق الإسلام وحق الإنسانية‏.‏ فهؤلاء حقهم المشترك‏:‏ أن تمنع عنهم الأذى والضرر بقول أو فعل، وأن تحب للمسلمين ما تحب لنفسك من الخير وتكره لهم ما تكره لها من الشر‏.‏ بل يجب منع الأذى عن جميع نوع الإنسان وإيصال ما تقدر عليه لهم من الإحسان‏.‏

ومما يدخل في هذا‏:‏ أن يعاشر الخلق بحسب منازلهم‏.‏ فالكبير له التوقير والاحترام‏.‏ والصغير يعامله بالرحمة والرقة المناسب لحاله، والنظير يعامله بم يحب أن يعامله به‏.‏ وللأم حق خاص بها، وللزوجة حق آخر، ويعامل من يُدل عليه ويثق به، ويتوسع معه، ما لا يعامل به من لا يثق به ولا يدل عليه‏.‏ ويتكلم مع الملوك وأرباب الرئاسة بالكلام اللين المناسب لمراتبهم‏.‏ ولهذا قال تعالى لموسى وهارون‏:‏ ‏{‏اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ، فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى‏}‏ ويعامل العلماء بالتوقير والإجلال والتعلم، والتواضع لهم، وإظهار الافتقار والحاجة إلى علمهم النافع، وكثرة الدعاء لهم، خصوصاً وقت تعليمهم وفتواهم الخاصة والعامة‏.‏

ومن ذلك‏:‏ أمر الصغار بالخير، ونهيهم عن الشر بالرفق والترغيب، وبذل ما يناسب من الدنيا لتنشيطهم وتوجيههم إلى الخير، واجتناب العنف القولي والفعلي‏.‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مُروا أولادكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر‏)‏ وكذلك سلك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع المؤلفة قلوبهم – من العطاء الدنيوي الكثير – ما يحصل به التأليف، ويترتب عليه من المصالح‏.‏ ولم يفعل ذلك مع من هو معروف بالإيمان الصادق تنزيلاً للناس منازلهم‏.‏

وكذلك مخاطبة الزوجة والأولاد الصغار بالخطاب اللائق بهم الذي فيه بسطهم، وإدخال السرور عليهم‏.‏

وكذلك من تنزيل الناس منازلهم‏:‏ أن تجعل الوظائف الدينية والدنيوية والممتزجة منهما للأكفاء المتميزين، الذين يفضلون غيرهم في ولاية تلك الوظيفة‏.‏ فمعلوم أن ولاية الملك‏:‏ أن الواجب فيها خصوصاً – وفي غيرها عموماً – مشاورة أهل الحل والعقد في تولية نم يصلح لها ممن جميع بين القوة والشجاعة والحلم، ومعرفة السياسة الداخلية والخارجية، ومن له القوة الكافية لتنفيذ العدل، وإيصال الحقوق إلى أهلها، وردع الظلمة والمجرمين، وغير ذلك مما يدخل في الولاية‏.‏

وكذلك ولاية القضاء‏:‏ يختار لها الأعلم بالشرع وبالواقع، الأفضل ي دينه وعقله وصفاته الحميدة‏.‏

وكذلك ولاية الإمامة في المساجد في الجمعة والجماعة‏:‏ يختار لها الأعلم بأحكام العبادات الأتقى، ثم الأمثل فالمثل – وكذلك ولاية قيادة الجيوش‏:‏ يختار لها أهل القوة والشجاعة والرأي والنصح، والمعرفة لفنون الحرب وأدواتها، وما يتبع ذلك مما تتوقف عليه هذه الوظيفة المهمة التي هي من أهم الوظائف وأخطرها، إلى غير ذلك من الولايات الكبار والصغار‏.‏ فإنها داخلة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا‏}‏ وهذه الولايات من أعظم الأمانات‏.‏ فيتعين أن تؤدى إلى أهلها، وأن يوظف فيها أهل الكفاءة بها‏.‏ وكل وظيفة لها أكفاء مختصون‏.‏ وهو داخل في هذا الحديث الشريف‏.‏

وكذلك يدخل في ذلك معاملة العصاة والمجرمين‏.‏ فمن رتب الشارع على جرمه عقوبة من حَدٍّ ونحوه تعين ما عينه الشارع، لأنه هو عين المصلحة العامة الشاملة‏.‏ ومن لم يعين له عقوبة عُزِّر بحسب حاله ومقامه‏.‏ فمنهم من يكفيه التوبيخ والكلام المناسب لفعلته، ومنهم من لا يردعه إلا العقوبة البليغة‏.‏

وكذلك في الصدقة والهدية، ليس عطية الطَّواف الذي يدور على الناس فتكفيه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان كعطية الفقير المتعفف الذي أصابته العَيْلة بعد المغني‏.‏ وفي الأثر ‏(‏ارحموا عزيز قوم ذل‏)‏‏.‏

وكذلك يميز من له آثار وسوابق وغناء ونفع للمسلمين على من ليس كذلك‏.‏

فهذه الأمور وما أشبهها داخلة في هذا الكلام الجامع الذي تواطأ عليه الشرع والعقل‏.‏ وما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن‏.‏

 الحديث السادس عشر

عن أبي صِرْمَةَ رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من ضارَّ ضار الله به‏.‏ ومن شاقَّ شَقَّ الله عليه‏)‏ رواه الترمذي وابن ماجه‏.‏

هذا الحديث دلّ على أصلين من أصول الشريعة‏:‏

أحدهما‏:‏ أن الجزاء من جنس العمل في الخير والشر‏.‏ وهذا من حكمة الله التي يحمد عليها‏.‏ فكما أن من عمل ما يحبه الله أحبه الله‏.‏ ومن عمل ما يبغضه أبغضه الله، ومن يسر على مسلم يسر الله عليه في الدنيا والآخرة‏.‏ ومن فرّج عن مؤمن كرب من كرب الدنيا فرّج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة‏.‏ والله في حاجة العبد ما كان العبد في حاجة أخيه، كذلك من ضار مسلماً ضره الله، ومن مَكَر به مكر الله به، ومن شق عليه شق الله عليه، إلى غير ذلك من الأمثلة الداخلة في هذا الأصل‏.‏

الأصل الثاني‏:‏ منع الضرر والمضارة، وأنه ‏(‏لا ضرر ولا ضرار‏)‏‏.‏ وهذا يشمل أنواع الضرر كله‏.‏

والضرر يرجع إلى أحد أمرين‏:‏ إما تفويت مصلحة، أو حصول مضرة بوجه من الوجوه‏.‏ فالضرر غير المستحق لا يحل إيصاله وعمله مع الناس، بل يجب على الإنسان أن يمنع ضرره وأذاه عنهم من جميع الوجوه‏.‏

فيدخل في ذلك‏:‏ التدليس والغش في المعاملات وكتم العيوب فيها، والمكر والخداع والنجش، وتلقي الركبان وبيع المسلم على بيع أخيه والشراء على شرائه، ومثله الإجارات، وجميع المعاملات، والخِطْبة على خِطْبة أخيه، وخِطْبة الوظائف التي فيها أهل لها قائم بها‏.‏ فكل هذا من المضارة المنهي عنها‏.‏

وكل معاملة من هذا النوع فإن الله لا يبارك فيها، لأنه من ضارَّ مسلماً ضارّه الله، ومن ضاره الله ترحّل عنه الخير، وتوجه إليه الشر، وذلك بما كسبت يداه‏.‏

ويدخل في ذلك‏:‏ مضارة الشريك لشريكه، والجار لجاره، بقول أو فعل، حتى إنه لا يحل له أن يحدث بملكه ما يضر بجاره، فضلاً عن مباشرة الإضرار به‏.‏

ويدخل في ذلك‏:‏ مضارة الغريم لغريمه، وسعيه في المعاملات التي تضر بغريمه، حتى إنه لا يحل له أن يتصدق ويترك ما وجب عليه من الدين إلا بإذن غريمه، أو برهن موجوداته أحد غرمائه دون الباقين، أو يقف، أو يعتق ما يضر بغريمه، أو ينفق أكثر من اللازم بغير إذنه‏.‏

كذلك الضرر في الوصايا‏:‏ كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ‏}‏ بأن يخص أحد ورثته بأكثر مما له، أو ينقص الوارث، أو يوصي لغير وارثه بقصد الإضرار بالورثة‏.‏

وكذلك لا يحل إضرار الزوج بزوجته من وجوه كثيرة، إما أن يعضلها ظلماً لتفتدى منه، أو يراجعها لقصد الإضرار، أو يميل إلى إحدى زوجتيه ميلاً يضرّ بالأخرى، ويجعلها كالمعلقة‏.‏

ومن ذلك‏:‏ الحيف في الأحكام والشهادات والقسمة وغيرها على أحد الشخصين لنفع الآخر‏.‏ فكل هذا داخل في المضرة‏.‏ وفاعله مستحق للعقوبة، وأن يضار الله به‏.‏

وأشد من ذلك‏:‏ الوقيعة في الناس عند الولاة والأمراء، ليغريهم بعقوبته أو أخذ ما له، أو منعه من حق هو له، فإن من عمل هذا العمل فإنه باغٍ، فليتوقع العقوبة العاجلة والآجلة‏.‏

ومن هذا‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم ‏(‏أن يورد مُمْرِض على مُصِحّ‏)‏ لما في ذلك من الضرر‏.‏

وكذلك نهى الجذْمَى ونحوهم عن مخالطة الناس، وهذا وغيره داخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا‏}‏ ونهى صلى الله عليه وسلم عن ترويع المسلم، ولو على وجه المزح‏.‏

ومن هذا السخرية بالخلق، والاستهزاء بهم، والوقيعة في أعراضهم، والتحريش بينهم‏.‏ فكله داخل في المضارة والمشاقة الموجب للعقوبة‏.‏

وكما يدل الحديث بمنطوقه‏:‏ أن من ضارّ وشاق ضرَّه الله وشقَّ عليه، فإن مفهومه يدلّ على‏:‏ أن من أزال الضرر والمشقة عن المسلم فإن الله يجلب له الخير، ويدفع عنه الضرر والمشاق، جزاء وفاقاً، سواء كان متعلقاً بنفسه أو بغيره‏.‏

 الحديث السابع عشر

عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اتق الله حيثما كنت‏.‏ وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن‏)‏ رواه الإمام أحمد والترمذي‏.‏

هذا حديث عظيم جمع فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حق الله وحقوق العباد‏.‏ فحقّ الله على عباده‏:‏ أن يتقوه حقّ تُقاته‏.‏ فيتّقوا سخطه وعذابه باجتناب المنهيات وأداء الواجبات‏.‏

وهذه الوصية هي وصية الله للأولين والآخرين، ووصية كل رسول لقومه أن يقول‏:‏ ‏(‏اعبدوا الله واتقوه‏)‏‏.‏

وقد ذكر الله خصال التقوى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَـكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَـئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ‏}‏ وفي قوله‏:‏ ‏{‏وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ‏}‏ ثم ذكر خصال التقوى فقال‏:‏ ‏{‏الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ‏}‏‏.‏

فوصف المتقين بالإيمان بأصوله وعقائده وأعماله الظاهرة والباطنة وبأداء العبادات البدنية والعبادات المالية، والصبر في البأساء والضراء وحين البأس، وبالعفو عن الناس، واحتمال أذاهم، والإحسان إليهم، وبمبادرتهم إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم بالاستغفار والتوبة، فأمر صلى الله عليه وسلم ووصى بملازمة التقوى حيثما كان العبد في كل وقت وكل مكان، وكل حالة من أحواله، لأنه مضطر إلى التقوى غاية الاضطرار، لا يستغني عنها في كل حالة من أحواله‏.‏

ثم لما كان العبد لا بد أن يحصل منه تقصير في حقوق التقوى وواجباتها أمر صلى الله عليه وسلم بما يدفع ذلك ويمحوه‏.‏ وهو أن يتبع الحسنة السيئة ‏(‏والحسنة‏)‏ اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله تعالى‏:‏ وأعظم الحسنات الدافعة للسيئات التوبة النصوح والاستغفار والإنابة إلى الله بذكره وحبه، وخوفه ورجائه، والطمع فيه وفي فضله كل وقت‏.‏ ومن ذلك الكفارات المالية والبدنية التي حددها الشارع‏.‏

ومن الحسنات التي تدفع السيئات‏:‏ العفو عن الناس، والإحسان إلى الخلق من الآدميين وغيرهم، وتفريج الكربات، والتيسير على المعسرين، وإزالة الضرر والمشقة عن جميع العالمين‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ وقال صلى الله عليه وسلم ‏:‏ ‏(‏الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر‏)‏ وكم في النصوص من ترتيب المغفرة على كثير من الطاعات‏.‏

ومما يكفر الله به الخطايا‏:‏ المصائب؛ فإنه لا يصيب المؤمن من هَمٍّ ولا غم ولا أذى، حتى الشوكة يشاكها، إلا كفر الله عنه بها خطاياه‏.‏ وهي إما فوات محبوب، أو حصول مكروه بدني أو قلبي، أو مالي، داخلي أو خارجي، لكن المصائب بغير فعل العبد‏.‏ فلهذا أمره بما هو من فعله، وهو أن يتبع السيئة الحسنة‏.‏

ثم لما ذكر حق الله – وهو الوصية بالتقوى الجامعة لعقائد الدين وأعماله الباطنة والظاهرة – قال ‏(‏وخالق الناس بخلق حسن‏)‏‏.‏

وأول الخلق الحسن‏:‏ أن تكف عنهم أذاك من كل وجه، وتعفو عن مساوئهم وأذيتهم لك، ثم تعاملهم بالإحسان القولي والإحسان الفعلي وأخص ما يكون بالخلق الحسن‏:‏ سعة الحلم على الناس، والصبر عليهم، وعدم الضجر منهم، وبشاشة الوجه، ولطف الكلام والقول الجميل المؤنس للجليس، المدخل عليه السرور، المزيل لوحشته ومشقة حشمته‏.‏ وقد يحسن المزح أحياناً إذا كان فيه مصلحة، لكن لا ينبغي الإكثار منه وإنما المزح في الكلام كالملح في الطعام، إن عدم أو زاد على الحد فهو مذموم‏.‏

ومن الخلق الحسن‏:‏ أن تعامل كل أحد بما يليق به، ويناسب حاله من صغير وكبير، وعاقل وأحمق، وعالم وجاهل‏.‏

فمن اتقى الله، وحقق تقواه، وخالق الناس على اختلاف طبقاتهم بالخلق الحسن فقد حاز الخير كله؛ لأنه قام بحق الله وحقوق العباد ولأنه كان من المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد الله‏.‏

 الحديث الثامن عشر

عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الظلم ظلمات يوم القيامة‏)‏ متفق عليه‏.‏

هذا الحديث فيه التحذير من الظلم، والحث على ضده وهو العدل‏.‏ والشريعة كلها عدل، آمرة بالعدل، ناهية عن الظلم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ‏}‏، ‏{‏إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ‏}‏، ‏{‏الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ‏}‏ فإن الإيمان – أصوله وفروعه، باطنه وظاهره – كله عدل، وضده ظلم‏.‏ فأعدل العدل وأصله‏:‏ الاعتراف وإخلاص التوحيد لله، والإيمان بصفاته وأسمائه الحسنى، وإخلاص الدين والعبادة له‏.‏ وأعظم الظلم، وأشده الشرك بالله، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ‏}‏ وذلك أن العدل وضع الشيء في موضعه، والقيام بالحقوق الواجبة‏.‏ والظلم عكسه فأعظم الحقوق‏.‏ وأوجبها‏:‏ حق الله على عباده‏:‏ أن يعرفوه ويعبدوه، ولا يشركوا به شيئاً، ثم القيام بأصول الإيمان، وشرائع الإسلام من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصيام رمضان، وحج البيت الحرام، والجهاد في سبيل الله قولاً وفعلاً، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر‏.‏

ومن الظلم‏:‏ الإخلال بشيء من ذلك، كما أن من العدل‏:‏ القيام بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم من الإيمان به ومحبته، وتقديمها على محبة الخلق كلهم، وطاعته وتوقيره وتبجيله، وتقديم أمره وقوله على أمر غيره وقوله‏.‏

ومن الظلم العظيم‏:‏ أن يخل العبد بشيء من حقوق النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأرحم بهم وأرأف بهم من كل أحد من الخلق، وهو الذي لم يصل إلى أحد خير إلا على يديه‏.‏

ومن العدل‏:‏ بر الوالدين، وصلة الأرحام، وأداء حقوق الأصحاب والمعاملين‏.‏ ومن الظلم‏:‏ الإخلال بذلك‏.‏

ومن العدل‏:‏ قيام كل من الزوجين بحق الآخر‏.‏ ومن أخل بذلك منهما فهو ظالم‏.‏

وظلم الناس أنواع كثيرة، يجمعها قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع‏:‏ ‏(‏إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا‏)‏‏.‏

فالظلم كله بأنواعه ظلمات يوم القيامة، يعاقب أهلها على قدر ظلمهم، ويجازى المظلومون من حسنات الظالمين‏.‏ فإن لم يكن لهم حسنات أو فنيت، أخذ من سيئاتهم فطرحت على الظالمين‏.‏

والعدل كله نور يوم القيامة ‏{‏يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ‏}

والله تعالى حرّم الظلم على نفسه، وجعله بين عباده محرماً‏.‏ فالله تعالى على صراط مستقيم في أقواله وأفعاله وجزائه‏.‏ وهو العدل‏.‏ وقد نصب لعباده الصراط المستقيم الذي يرجع إلى العدل، ومن عدل عنه عدل إلى الظلم والجور الموصل إلى الجحيم‏.‏

والظلم ثلاثة أنواع‏:‏ نوع لا يغفره الله، وهو الشرك بالله ‏{‏إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ‏}

ونوع لا يترك الله منه شيئاً، وهو ظلم العباد بعضهم لبعض‏.‏ فمن كمال عدله‏:‏ أن يقص الخلق بعضهم من بعض بقدر مظالمهم‏.‏

ونوع تحت مشيئة الله‏:‏ إن شاء عاقب عليه، وإن شاء عفا عن أهله‏.‏ وهو الذنوب التي بين العباد وبين ربهم فيما دون الشرك‏.‏

 الحديث التاسع عشر

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏انظروا إلى من هو أسفل منكم‏.‏ ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فهو أجدر أن لا تَزْدروا نعمة الله عليكم‏)‏ متفق عليه‏.‏

يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية‏.‏ فهذا يدل على الحث على شكر الله بالاعتراف بنعمه، والتحدث بها، والاستعانة بها على طاعة المنعم، وفعل جميع الأسباب المعينة على الشكر‏.‏ فإن الشكر لله هو رأس العبادة، وأصل الخير، وأوْجَبُه على العباد؛ فإنه ما بالعباد من نعمة ظاهرة ولا باطنة، خاصة أو عامة إلا من الله‏.‏ وهو الذي يأتي بالخير والحسنات، ويدفع السوء والسيئات‏.‏ فيستحق أن يبذل له العباد من الشكر ما تصل إليه قواهم، وعلى العبد أن يسعى بكل وسيلة توصله وتعينه على الشكر‏.‏

وقد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب، والسبب القوي لشكر نعم الله‏.‏ وهو أن يلحظ العبد في كل وقت من هو دونه في العقل والنسب والمال وأصناف النعم‏.‏ فمتى استدام هذا النظر اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه‏.‏ فإنه لا يزال يرى خلقاً كثيراً دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثير منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخَلْق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمداً كثيراً، ويقول‏:‏ الحمد لله الذي أنعم عليَّ وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلاً‏.‏

ينظر إلى خلق كثير ممن سلبوا عقولهم، فيحمد ربه على كمال العقل، ويشاهد عالماً كثيراً ليس لهم قوت مدخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه‏.‏

ويرى خلقاً كثيراً قد ابتُلُوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام وهو مُعافى من ذلك، مُسَرْبل بالعافية‏.‏ ويشاهد خلقاً كثيراً قد ابتُلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي‏.‏ والله قد حفظه منها أو من كثير منها‏.‏

ويتأمل أناساً كثيرين قد استولى عليهم الهم، وملكهم الحزن والوساوس، وضيق الصدر، ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيراً يفوق بهذه النعمة – نعمة القناعة وراحة القلب – كثيراً من الأغنياء‏.‏

ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور يجد عالماً كثيراً أعظم منه وأشد مصيبة، فيحمد الله على وجود العافية وعلى تخفيف البلاء، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد مكروه أعظم منه‏.‏

فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم لم يزل شكره في قوة ونمو، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتتوالى‏.‏ ومن عكس القضية فارتفع نظره وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله، ويفقد شكره‏.‏ ومتى فقد الشكر ترحلت عنه النعم وتسابقت إليه النقم، وامتحن بالغم الملازم، والحزم الدائم، والتسخط لما هو فيه من الخير، وعدم الرضى بالله رباً ومدبراً‏.‏ وذلك ضرر في الدين والدنا وخسران مبين‏.‏

واعلم أن من تفكر في كثرة نعم الله، وتفطن لآلاء الله الظاهرة والباطنة، وأنه لا وسيلة إليها إلا محض فضل الله وإحسانه، وأن جنساً من نعم الله لا يقدر العبد على إحصائه وتعداده، فضلاً عن جميع الأجناس، فضلاً عن شكرها‏.‏ فإنه يضطر إلى الاعتراف التام بالنعم، وكثرة الثناء على الله، ويستحي من ربه أن يستعين بشيء من نعمه على ما لا يحبه ويرضاه، وأوجب له الحياء من ربه الذي هو من أفضل شعب الإيمان فاستحيى من ربه أن يراه حيث نهاه، أو يفقده حيث أمره‏.‏

ولما كان على الشكر مدار الخير وعنوانه قال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل‏:‏ ‏(‏إني أحبك، فلا تدعن أن تقول دبر كل صلاة مكتوبة‏:‏ اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك‏)‏ وكان يقول‏:‏ ‏(‏اللهم اجعلني لك شكَّاراً، لك ذَكَّاراً‏.‏ اللهم اجعلني أعظم شكرك، وأكثر ذكرك، وأتبع نصحك، وأحفظ وصيتك‏)‏‏.‏

وقد اعترف أعظم الشاكرين بالعجز عن شكر نعم الله، فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك‏)‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث العشرون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يقبل الله صلاة أحدكم – إذا أحدث – حتى يتوضأ‏)‏ متفق عليه‏.‏

يدل الحديث بمنطوقه‏:‏ أن من لم يتوضأ إذا أحدث فصلاته غير مقبولة‏:‏ أي غير صحيحة، ولا مجزئة، وبمفهومه‏:‏ أن من توضأ قبلت صلاته‏:‏ أي مع بقية ما يجب ويشترط للصلاة؛ لأن الشارع يعلق كثيراً من الأحكام على أمور معينة لا تكفي وحدها لترتب الحكم، حتى ينظم إليها بقية الشروط، وحتى تنتفي الموانع‏.‏ وهذا الأصل الشرعي متفق عليه بين أهل العلم؛ لأن العبادة التي تحتوي على أمور كثيرة – كالصلاة مثلاً – لا يشترط أن تجمع أحكامها في كلام الشارع في موضع واحد، بل يجمع جميع ما ورد فيها من الأحكام، فيؤخذ مجموع أحكامها من نصوص متعددة‏.‏ وهذا من أكبر الأسباب لوضع الفقهاء علوم الفقه والأحكام، وترتيبها وتبويبها، وضم الأجناس والأنواع بعضها لبعض للتقريب على غيرهم‏.‏ فلهم في ذلك اليد البيضاء فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء‏.‏

وهذا الأصل ينبغي أن تعتبره في كل موضع‏.‏ وهو أن الأحكام لا تتم إلا باجتماع شروطها ولوازمها، وانتفاء موانعها‏.‏

والحديث يشمل جميع نواقض الوضوء‏.‏ فيدخل فيه الخارج من السبيلين، والنوم الناقض للوضوء، والخارج الفاحش من بقية البدن إذا كان نجساً، وأكل لحم الإبل، ولمس المرأة لشهوة، ولمس الفرج باليد‏.‏ وفي بعضها خلاف‏.‏

فكل من وجه منه شيء من هذه النواقض لم تصح صلاته، حتى يتوضأ الوضوء الشرعي‏.‏ فيغسل الأعضاء التي نص الله عليها في سورة المائدة، مع الترتيب والموالاة، أو يتطهر بالتراب بدل الماء عند تعذر استعمال الماء‏:‏ إما لعدمه، وإما لخوفه باستعماله الضرر‏.‏

وفي هذا دليل على أنه لو صلى ناسياً أو جاهلاً حدثه فعليه الإعادة لعموم الحديث، وهو متفق عليه‏.‏ فهو وإن كان مثاباً على فعله صورة الصلاة ما فيها من العبادات، لكن عليه الإعادة لإبراء ذمته‏.‏ وهذا بخلاف من تطهر ونسي ما على بدنه أو ثوبه من النجاسة فإنه لا إعادة عليه على الصحيح؛ لأن الطهارة من باب فعل الأمور الذي لا تبرأ الذمة إلا بفعله‏.‏ وأما اجتناب النجاسة فإنه من باب اجتناب المحظور الذي إذا فعل والإنسان معذور، فلا إعادة عليه‏.‏

 الحديث الحادي والعشرون

عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏عشر من الفطرة‏:‏ قص الشارب وإعفاء اللحية، والسواك، واستنشاق الماء، وقص الأظافر، وغسل البراجم، ونتف الإبط، وحلق العانة، وانتقاص الماء، يعني الاستنجاء‏)‏ قال الراوي‏:‏ ونسيت العاشرة إلى أن تكون المضمضة‏.‏ رواه مسلم‏.‏

‏"‏الفطرة‏)‏ هي الخلقة التي خلق الله عباده عليها، وجعلهم مفطورين عليها‏:‏ على محبة الخير وإيثاره، وكراهة الشر ودفعه، وفطرهم حنفاء مستعدين، لقبول الخير والإخلاص لله، والتقرب إليه، وجعل تعالى شرائع الفطرة نوعين‏.‏

أحدهما‏:‏ يطهر القلب والروح، وهو الإيمان بالله وتوابعه‏:‏ من خوفه ورجائه، ومحبته والإنابة إليه‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ ، مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏ فهذه تزكي النفس، وتطهر القلب وتنميه، وتذهب عنه الآفات الرذيلة، وتحليه بالأخلاق الجميلة، وهي كلها ترجع إلى أصول الإيمان وأعمال القلوب‏.‏

والنوع الثاني‏:‏ ما يعود إلى تطهير الظاهر ونظافته، ودفع الأوساخ والأقذار عنه، وهي هذه العشرة، وهي نم محاسن الدين الإسلامي؛ إذ هي كلها تنظيف للأعضاء، وتكميل لها، لتتم صحتها وتكون مستعدة لكل ما يراد منها‏.‏

فأما المضمضة والاستنشاق‏:‏ فإنهما مشروعان في طهارة الحدث الأصغر والأكبر بالاتفاق‏.‏ وهما فرضان فيهما من تطهير الفم والأنف وتنظيفهما، لأن الفم والأنف يتوارد عليهما كثير من الأوساخ والأبخرة ونحوها‏.‏ وهو مضطر إلى ذلك وإزالته‏.‏ وكذلك السواك يطهر الفم‏.‏ فهو ‏(‏مطهرة للفم مرضاة للرب‏)‏ ولهذا يشرع كل وقت ويتأكد عند الوضوء والصلاة والانتباه من النوم، وتغير الفم، وصفرة الأسنان ونحوها‏.‏

وأما قصّ الشارب أو حَفُّه حتى تبدو الشَّفَّة، فلما في ذلك من النظافة، والتحرز مما يخرج من الأنف، فإن شعر الشارب إذا تدلى على الشفة باشر به ما يتناوله من مأكول ومشروب، مع تشويه الخلقة بوفرته، وإن استحسنه من لا يعبأ به‏.‏ وهذا بخلاف اللحية، فإن الله جعلها وقاراً للرجل وجمالاً به‏.‏ ولهذا يبقى جماله في حال كبره بوجود شعر اللحية‏.‏ واعتبر ذلك بمن يعصي الرسول صلى الله عليه وسلم فيحلقها، كيف يبقى وجهه مشوهاً قد ذهب محاسنه، وخصوصاً وقت الكبر‏.‏ فيكون كالمرأة العجوز إذا وصلت إلى هذا السن ذهبت محاسنها، ولو كانت في صباها من أجمل النساء‏.‏ وهذا محسوس، ولكن العوائد والتقليد الأعمى يوجب استحسان القبيح، واستقباح الحسن‏.‏

وأما قص الأظافر ونتف الإبط، وغسل البراجم، وهي مطاوي البدن التي تجتمع فيها الأوساخ – فلها من التنظيف وإزالة المؤذيات ما لا يمكن جحده، وكذلك حلق العانة‏.‏

وأما الاستنجاء – وهو إزالة الخارج من السبيلين بماء أو حجر – فهو لازم وشرط من شروط الطهارة‏.‏

فعلمت أن هذه الأشياء كلها، تكمل ظاهر الإنسان وتطهره وتنظفه، وتدفع عنه الأشياء الضارة والمستقبحة، والنظافة من الإيمان‏.‏

والمقصود‏:‏ أن الفطرة هي شاملة لجميع الشريعة، باطنها وظاهرها؛ لأنها تنفي الباطن من الأخلاق الرذيلة، وتحلّيه بالأخلاق الجميلة التي ترجع إلى عقائد الإيمان والتوحيد، والإخلاص لله والإنابة إليه، وتنقي الظاهر من الأنجاس والأوساخ وأسبابها‏.‏ وتطهره الطهارة الحسية والطهارة المعنوية‏.‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الطهور شَطْر الإيمان‏)‏ وقال تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ‏}‏‏.‏

فالشريعة كلها طهارة وزكاء وتنمية وتكميل، وحث على معالي الأمور، ونهي عن سفسافها، والله أعلم‏.‏

 الحديث الثاني والعشرون

عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الماء طهور لا ينجسه شيء‏)‏‏.‏ رواه أحمد والترمذي وأبو داود والنسائي‏.‏

هذا الحديث الصحيح يدل على أصل جامع، وهو أن الماء – أي جميع المياه النابعة من الأرض، والنازلة من السماء الباقية على خلقتها، أو المتغيرة بمقرها أو ممرها، أو بما يلقى فيها من الطاهرات ولو تغيراً كثيراً – طاهرة تستعمل في الطهارة وغيرها‏.‏ ولا يستثنى من هذا الكلام الجامع إلا الماء المتغير لونه أو طعمه أو ريحه بالنجاسة، كما في بعض ألفاظ هذا الحديث‏.‏

وقد اتفق العلماء على نجاسة الماء المتغير بالنجاسة‏.‏ واستدل عليه الإمام أحمد رضي الله عنه وغيره بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ‏}‏ إلى آخر الآية‏.‏ يعني‏:‏ ومتى ظهرت أوصاف هذه الأشياء المحرمة في الماء صار نجساً خبيثاً‏.‏

وهذا الحديث وغيره يدل على أن الماء المتغير بالطاهرات طهور‏.‏ وعلى أن ما خلت به المرأة لا يمنع منه مطلقاً‏.‏ وعلى طهورية ما انغمست فيه يد القائم من نوم الليل، وإنما ينهى القائم من النوم عن غمسها حتى يغسلها ثلاثاً‏.‏ وأما المنع من الماء فلا يدل الحديث عليه‏.‏

والمقصود‏:‏ أن هذا الحديث يدل على أن الماء قسمان‏:‏ نجس، وهو ما تغير أحد أوصافه بالنجاسة، قليلاً كان أو كثيراً‏.‏ وطهور، وهو ما ليس كذلك‏.‏ وأن إثبات نوع ثالث – لا طهور ولا نجس، بل طاهر غير مطهر، ليس عليه دليل شرعي، فيبقى على أصل الطهورية‏.‏

ويؤيد هذا العموم قوله تعالى ‏{‏فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا‏}

وهذا عام في كل ماء، لأنه نكرة في سياق النفي، فيشمل كل ماء خرج منه الماء النجس للإجماع عليه‏.‏

ودلّ هذا الحديث أيضاً‏:‏ أن الأصل في المياه الطهارة‏.‏ وكذلك في غيرها‏.‏ فمتى حصل الشك في شيء منها‏:‏ هل وجد فيه سبب التنجيس أم لا‏؟‏ فالأصل الطهارة‏.‏

 الحديث الثالث والعشرون

عن أبي قتادة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهرة‏:‏ ‏(‏إنها ليست بنجس، إنها من الطوّافين عليكم والطّوّافات‏)‏ رواه مالك وأحمد وأهل السنن الأربع‏.‏

هذا الحديث محتوٍ على أصلين‏:‏

أحدهما‏:‏ أن المشقة تجلب التيسير‏.‏ وذلك أصل كبير من أصول الشريعة، من جملته‏:‏ أن هذه الأشياء التي يشق التحرز منها طاهرة، لا يجب غسل ما باشرت بفيها أو يدها أو رجلها، لأنه علل ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏إنها من الطوافين عليكم والطوافات‏)‏ كما أباح الاستجمار في محل الخارج من السبيلين، ومسح ما أصابته النجاسة من النعلين والخفين، وأسفل الثوب، وعفا عن يسير طين الشوارع النجس، وأبيح الدم الباقي في اللحم والعروق بعد الدم المسفوح، وأبيح ما أصابه فم الكلب من الصيد، وما أشبه ذلك مما يجمعه علة واحدة، وهي المشقة‏.‏

الثاني‏:‏ أن الهرة وما دونها في الخلقة كالفأرة ونحوها طاهرة في الحياة لا ينجس ما باشرته من طعام وشراب وثياب وغيرها، ولذلك قال أصحابنا‏:‏ الحيوانات أقسام خمسة‏:‏

أولها‏:‏ نجس حياً وميتاً في ذاته وأجزائه وفضلاته‏.‏ وذلك كالكلاب والسباع كلها، والخنزير ونحوها‏.‏

الثاني‏:‏ ما كان طاهراً في الحياة نجساً بعد الممات‏.‏ وذلك كالهرة وما دونها في الخلقة‏.‏ ولا تحله الذكاة ولا غيرها‏.‏

الثالث‏:‏ ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات، ولكنه لا يحل أكله، وذلك كالحشرات التي لا دم لها سائل‏.‏

الرابع‏:‏ ما كان طاهراً في الحياة وبعد الذكاة‏.‏ وذلك كالحيوانات المباح أكلها، كبهيمة الأنعام ونحوها‏.‏

الخامس‏:‏ ما كان طاهراً في الحياة وبعد الممات، ذُكِّي أو لم يُذَك وهو حلال، وذلك كحيوانات البحر كلها والجراد‏.‏

واستدل كثير من أهل العلم بقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنها من الطوافين عليكم والطوافات‏)‏ بطهارة الصبيان، وطهارت أفواههم، ولو بعد ما أصابتها النجاسة، وكذلك طهارة ريق الحمار والبغل وعرقه وشعره‏.‏ وأين مشقة الهر من مشقة الحمار والبغل‏؟‏

ويدل عليه‏:‏ أنه صلى الله عليه وسلم كان يركبها هو وأصحابه، ولم يكونوا يتوقَّون منها ما ذكرنا‏.‏ وهذا هو الصواب‏.‏

وأما قوله صلى الله عليه وسلم في لحوم الحمر يوم خيبر‏:‏ ‏(‏إنها رجس‏)‏ أي‏:‏ لحمها رجس نجس حرام أكله‏.‏ وأما ريقها وعرقها وشعرها‏:‏ فلم ينه عنه، ولم يتوقّه صلى الله عليه وسلم ‏.‏

وأما الكلاب‏:‏ فإنه صلى الله عليه وسلم أمر بغسل ما ولغت فيه سبع مرات إحداهن بالتراب‏.‏

 الحديث الرابع والعشرون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر‏)‏ رواه مسلم‏.‏

هذا الحديث يدل على عظيم فضل الله وكرمه بتفضيله هذه العبادات الثلاث العظيمة، وأن لها عند الله المنزلة العالية، وثمراتها لا تعدّ ولا تحصى‏.‏

فمن ثمراتها‏:‏ أن الله جعلها مكملة لدين العبد وإسلامه، وأنها منمية للإيمان، مسقية لشجرته‏.‏ فإن الله غرس شجرة الإيمان في قلوب المؤمنين بحسب إيمانهم، وقَدَّرَ من ألطافه وفضله من الواجبات والسنن ما يسقي هذه الشجرة وينميها، ويدفع عنها الآفات حتى تكمل وتؤتي أُكُلها كل حين بإذن ربها، وجعلها تنفي عنها الآفات‏.‏

فالذنوب ضررها عظيم، وتنقيصها للإيمان معلوم‏.‏

فهذه الفرائض الثلاث إذا تجنب العبد كبائر الذنوب غفر الله بها الصغائر والخطيئات‏.‏ وهي من أعظم ما يدخل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ‏}‏ كما أن الله جعل من لطفه تجنب الكبائر سبباً لتفكير الصغائر‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيمًا‏}‏ أما الكبائر فلا بد لها من توبة‏.‏

وعلم من هذا الحديث‏:‏ أن كل نص جاء فيه تكفير بعض الأعمال الصالحة للسيئات، فإنما المراد به الصغائر؛ لأن هذه العبادات الكبار إذا كانت لا تكفر بها الكبائر فكيف بما دونها‏؟‏

والحديث صريح في أن الذنوب قسمان‏:‏ كبائر، وصغائر‏.‏

وقد كثر كلام الناس في الفرق بين الصغائر والكبائر‏.‏ وأحسن ما قيل‏:‏ إن الكبيرة ما رتب عليه حد في الدنيا، أو توعد عليه بالآخرة أو لعن صاحبه، أو رتب عليه غضب ونحوه، والصغائر ما عدا ذلك‏.‏

أو يقال‏:‏ الكبائر‏:‏ ما كان تحريمه تحريم المقاصد‏.‏ والصغائر‏:‏ ما حرم تحريم الوسائل، فالوسائل‏:‏ كالنظرة المحرمة مع الخلوة بالأجنبية‏.‏ والكبيرة‏:‏ نفس الزنا، وكربا الفضل مع ربا النسيئة، ونحو ذلك‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الحديث الخامس والعشرون

عن مالك بن الحويرث رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏صلُّوا كما رأيتموني أصلّي، وإذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم، وليؤمكم أكبركم‏)‏ متفق عليه‏.‏

هذا الحديث احتوى على ثلاث جمل، أولها أعظمها‏:‏

الجملة الأولى‏:‏ قوله ‏(‏إذا حضرت الصلاة فليؤذن لكم أحدكم‏)‏ فيه مشروعية الأذان ووجوبه للأمر به، وكونه بعد دخول الوقت‏.‏ ويستثنى من ذلك صلاة الفجر‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم‏.‏ فإنه لا ينادى حتى يقال له‏:‏ أصبحت، أصبحت‏)‏ وأن الأذان فرض كفاية، لا فرض عين؛ لأن الأمر من الشارع إن خوطب به كل شخص مكلف وطلب حصوله منه، فهو فرض عين‏.‏ وإن طلب حصوله فقط، بقطع النظر من الأعيان، فهو فرض كفاية‏.‏ وهنا قال‏:‏ ‏(‏فليؤذن لكم أحدكم‏)‏ وألفاظ الأذان معروفة‏.‏

وينبغي أن يكون المؤذن‏:‏ صَيِّتاً أميناً، عالماً بالوقت، متحرياً له، لأنه أعظم لحصول المقصود‏.‏ ويكفي من يحصل به الإعلام غالباً‏.‏

والحديث يدل على وجوب الأذان في الحضر والسفر‏.‏ والإقامة من تمام الأذان، لأن الأذان‏:‏ الإعلام بدخول الوقت للصلاة، والإقامة‏:‏ الإعلام بالقيام إليها‏.‏

وقد وردت النصوص الكثيرة بفضله، وكثرة ثوابه، واستحباب إجابة المؤذن، وأن يقول المجيب مثل ما يقول المؤذن إلا إذا قال‏:‏ ‏(‏حَيَّ على الصلاة، حيَّ على الفلاح‏)‏ فيقول كلمة الاستعانة بالله على ما دعا إليه من الصلاة والفلاح الذي هو الخير كله‏:‏ ‏(‏لا حول ولا قوة إلا بالله‏)‏ ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول‏:‏ ‏(‏اللهم ربَّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة‏.‏ وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته‏)‏ ثم يدعو لنفسه؛ لأنه من مواطن الإجابة التي ينبغي للداعي قصدها‏.‏

الجملة الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وليؤمكم أكبركم‏)‏ فيه‏:‏ وجوب صلاة الجماعة وأن أقلها إمام ومأموم، وأن الأولى بالإمامة أقومهم بمقصود الإمامة، كما ثبت في الصحيح‏:‏ ‏(‏يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله‏.‏ فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسُّنّة‏.‏ فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة أو إسلاماً‏)‏ فإن كانوا متقاربين – كما في الحديث – كان الأولى منهما أكبرهما؛ فإن تقديم الأكبر مشروع في كل أمر طلب فيه الترتيب، إذا لم يكن للصغير مزيد فضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كَبِّرْ، كَبِّرْ‏)‏‏.‏

وإذا ترتبت الصلاة بإمام ومأموم فإنما جعل الإمام ليؤتم به‏.‏ فإذا كبر‏:‏ كَبَّر من وراءه‏.‏ وإذا ركع، وسجد، ورفع‏:‏ تبعه من بعده وينهى عن موافقته في أفعال الصلاة‏.‏ وأما مسابقته الإمام، والتقدم عليه في ركوع أو سجود، أو خفض أو رفع، فإن ذلك حرام، مبطل للصلاة‏.‏ فيؤمر المأمومون بالاقتداء بإمامهم‏.‏ وينهون عن الموافقة والمسابقة والتخلف الكثير‏.‏ فإن كانوا اثنين فأكثر فالأفضل‏:‏ أن يصفوا خلفه‏.‏ ويجوز عن يمينه، أو عن جانبيه‏.‏ والرجل الواحد يصف عن يمين الإمام‏.‏ والمرأة خلف الرجل، أو الرجل‏.‏ وتقف وحدها، إلا إذا كان معها نساء فيكنَّ كالرجال في وجوب المصافّة‏.‏ وإن وقف الرجل الواحد خلف الإمام أو خلف الصف لغير عذر بطلت صلاته‏.‏

وعلى الإمام تحصيل مقصود الإمامة من الجهر بالتكبير في الانتقالات والتسميع، ومن الجهر في القراءة الجهرية‏.‏ وعليه مراعاة المأمومين في التقدم والتأخر، والتخفيف مع الإتمام‏.‏

الجملة الثالثة‏:‏ وهي الأولى في هذا الحديث – قوله‏:‏ ‏(‏صلوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ وهذا تعليم منه صلى الله عليه وسلم بالقول والفعل، كما فعل ذلك في الحج، حيث كان يقوم بأداء المناسك ويقول للناس‏:‏ ‏(‏خذوا عني مناسككم‏)‏ وهذه الجملة تأتي على جميع ما كان يفعله ويقوله ويأمر به في الصلاة، وذلك بأن يستكمل العبد جميع شروط الصلاة، ثم يقوم إلى صلاته ويستقبل القبلة، ناوياً الصلاة المعينة بقلبه‏.‏ ويقول ‏(‏الله أكبر‏)‏ ثم يستفتح، ويتعوذ بما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من أنواع الاستفتاحات والتعوذات، ويقرأ ‏(‏بسم الله الرحمن الرحيم‏)‏ ثم يقرأ الفاتحة، وسورة طويلة في صلاة الفجر، وقصيرة في صلاة المغرب، وبين ذلك في بقية الصلوات، ثم يركع كبراً رافعاً يديه حذو منكبيه في ركوعه وفي رفعه منه في كل ركعة، وعند تكبيرة الإحرام‏.‏ وإذا قام من التشهد الأول إلى الصحيح في الصلاة الرباعية والثلاثية، ويقول‏:‏ ‏(‏سبحان ربي العظيم‏)‏ مرة واجبة‏.‏ وأقل الكمال‏:‏ ثلاث مرات، فأكثر‏.‏ وكذلك تسبيح السجود قول‏:‏ ‏(‏سبحان ربي الأعلى‏)‏ ثم يرفع رأسه قائلاً – إماماً ومنفرداً -‏:‏ ‏(‏سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه‏)‏ وكذلك المأموم، إلا أنه لا يقول‏:‏ ‏(‏سمع الله لمن حمده‏)‏ ثم يكبر ويسجد على سبعة أعضاء‏:‏

القدمين، والركبتين، والكفين، والجبهة‏.‏ مع الأنف، ويمكنها من الأرض، ويجافيها، ولا يبسط ذراعيه انبساط الكلب، ثم يرفع مكبراً، ويجلس مفترشاً جالساً على رجله اليسرى، ناصباً رجله اليمنى، موجهاً أصابعها إلى القبلة‏.‏ والصلاة جلوسها كله افتراش، إلا في التشهد الأخير‏.‏ فإنه ينبغي له أن يتورّك، فيقعد على الأرض، ويخرج رجله اليسرى عن يمينه، ويقول بين السجدتين‏:‏ ‏(‏رب اغفر لي وارحمني واهدني وارزقني واجبرني‏)‏ ثم يسجد الثانية كالأولى‏.‏ وهكذا يفعل في كل ركعة، وعليه أن يطمئن في كل رفع وخفض، وركوع وسجود وقيام وقعود، ثم يتشهد فيقول‏:‏ ‏(‏التحيات لله، والصلوات والطيبات السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته‏.‏ السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين‏.‏ أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله‏)‏ هذا التشهد الأول، ثم يقوم، إن كانت رباعية أو ثلاثية، ويصلي بقيتها بالفاتحة وحدها، وإن كان في التشهد الذي يليه السلام قال‏:‏ ‏(‏اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم إني أعوذ بك من عذاب جهنم، ومن عذاب القبر، ومن فتنة المحيا والممات، ومن فتنة المسيح الدجال‏)‏ ويدعو بما أحب، ثم يسلمّ، ويذكر الله بما ورد، فجميع الوارد عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصلاة من فعله وقوله وتعليمه وإرشاده داخل في قوله‏:‏ ‏(‏صلّوا كما رأيتموني أصلي‏)‏ وهو مأمور به، أمر إيجاب أو استحباب بحسب الدلالة‏.‏

فما كان من أجزائها، لا يسقط سهواً ولا جهلاً، ولا عمداً قيل له‏:‏ ركن، كتكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة، والتشهد الأخير، والسلام، وكالقيام، والركوع، والسجود، والاعتدال عنهما‏.‏

وما كان يسقط سهواً ويجبره سجود السهو قيل له‏:‏ واجب، كالتشهد الأول، والجلوس له، والتكبيرات غير تكبيرة الإحرام، وقول‏:‏ ‏(‏سمع الله لمن حمده‏)‏ للإمام والمنفر، وقول‏:‏ ‏(‏ربنا ولك الحمد‏)‏ لكل مصلّ، وقول‏:‏ ‏(‏سبحان ربي العظيم‏)‏ مرّة في الركوع، و‏"‏سبحان ربي الأعلى‏)‏ مرة في السجود، وقول‏:‏ ‏(‏ربي اغفر لي‏)‏ بين السجدتين‏.‏

وما سوى ذلك فإنه من مكملاتها ومستحباتها‏.‏ وخصوصاً روح الصلاة ولُبُها، وهو حضور القلب فيها، وتدبر ما يقوله من قراءة، وذكر ودعاء، وما يفعله من قيام وقعود، وركوع وسجود، والخضوع لله، والخشوع فيها لله‏.‏

ومما يدخل في ذلك‏:‏ تجنب ما نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلاة‏:‏ كالضحك، والكلام، وكثرة الحركة المتتابعة لغير ضرورة، فإن الصلاة لا تتم إلا بوجود شروطها وأركانها وواجباتها، وانتفاء مبطلاتها التي ترجع إلى أمرين‏:‏ إما إخلال بلازم، أو فعل ممنوع فيها، كالكلام ونحوه‏.‏

 الحديث السادس والعشرون

عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي‏:‏ نصرت بالرُّعبِ مسيرة شهرن وجُعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً‏.‏ فأيُّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي‏.‏ وأعطيت الشفاعة‏.‏ وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ متفق عليه‏.‏

فُضِّل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بفضائل كثيرة فاق بها جميع الأنبياء‏.‏ فكل خصلة حميدة ترجع إلى العلوم النافعة، والمعارف الصحيحة، والعمل الصالح‏.‏ فلنبينا منها أعلاها وأفضلها وأكملها‏.‏ ولهذا لما ذكر الله أعيان الأنبياء الكرام قال لنبيه‏:‏ ‏{‏أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ‏}‏ وهداهم‏:‏ هو ما كانوا عليه من الفضائل الظاهرة والباطنة‏.‏

وقد تمم صلى الله عليه وسلم ما أمر به، وفاق جميع الخلق، ولذلك خصّ الله نبينا بخصائص لما يشاركه فيها أحد من الأنبياء، منها‏:‏ هذه الخمس التي عادت على أمته بكل خير وبركة ونفع‏.‏

إحداها‏:‏ أنه نصر بالرعب مسيرة شهر، وهذا نصر رباني، وجند من السماء يعين الله به رسوله وأمته المتبعين لهديه، فمتى كان عدوه عنه مسافة شهر فأقل فإنه مرعوب منه، وإذا أراد الله نصر أحد ألقى في قلوب أعدائه الرعب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا‏}‏ وألقى في قلوب المؤمنين من القوة والثبات والسكينة والطمأنينة ما هو أعظم أسباب النصر، فالله تعالى وعد نبينا وأمته بالنصر العظيم، وأن يعينهم بأسباب أرشدهم إليها، كالاجتماع والائتلاف، والصبر والاستعداد للأعداء بكل مستطاع من القوة إلى غير ذلك من الإرشادات الحكيمة، وساعدهم بهذا النصر، وقد فعل تبارك وتعالى، كما هو معروف من حال نبينا صلى الله عليه وسلم والمتبعين له من خلفائه الراشدين والملوك الصالحين، تم لهم من النصر والعزّ العظيم في أسرع وقت ما لم يتم لغيرهم‏.‏

الثانية‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وجعلت لي الأرض كلها مسجداً وطهوراً‏)‏ وحقق ذلك بقوله‏:‏ ‏(‏فأينما أدركت أحداً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره‏)‏ فجميع بقاع الأرض مسجد يصلى فيها من غير استثناء إلا ما نص الشارع على المنع منه‏.‏ وقد ثبت النهي عن الصلاة في المقبرة والحمام، وأعطان الإبل‏.‏ وكذلك الموضع المغصوب والنجس لاشتراط الطهارة لبدن المصلي وثوبه وبقعته‏.‏

وكذلك من عدم الماء أو ضرّه استعماله فله العدول إلى التيمم بجميع ما تصاعد على وجه الأرض، سواء التراب الذي له غبار أو غيره، كما هو صريح هذا الحديث مع قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ‏}‏ فإن الصعيد‏:‏ كل ما تصاعد على وجه الأرض من جميع أجزائها‏.‏

ويدلّ على أن التيمم على الوجه واليدين ينوب مناب طهارة الماء، ويفعل به من الصلاة والطواف ومس الصحف وغير ذلك ما يفعل بطهارة الماء‏:‏ والشارع أناب التراب مناب الماء عند تعذر استعماله‏.‏ فيدل ذلك على أنه إذا تطهر بالتراب ولم ينتقض وضوءه لم يبطل تيممه بخروج الوقت ولا بدخوله، وأنه إذا نوى التيمم للنفل استباح الفرض كطهارة الماء، وأن حكمه حكم الماء في كل الأحكام في حالة التعذر‏.‏

الثالث‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وأحلت لي الغنائم، ولم تحل لأحد قبلي‏)‏ وذلك لكرامته على ربه، وكرامة أمته وفضلهم، وكمال إخلاصهم، فأحلها لهم، ولم ينقص من أجر جهادهم شيئاً‏.‏ وحصل بها لهذه الأمة من سعة الأرزاق، وكثرة الخيرات، والاستعانة على أمور الدين والدنيا شيءٌ لا يمكن عدّه‏.‏ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وجعل رزقي تحت ظلّ رمحي‏)‏ أما من قبلنا من الأمم، فإن جهادهم قليل بالنسبة لهذه الأمة، وهم دون هذه الأمة بقوة الإيمان والإخلاص‏.‏ فمن رحمته بهم أنه منعهم من الغنائم؛ لئلا يخلّ بإخلاصهم‏.‏ والله أعلم‏.‏

الرابعة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وأعطيت الشفاعة‏)‏ وهي الشفاعة العظمى التي يعتذر عنها كبار الرسل، وينتدب لها خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ‏.‏ فيشفّعه الله في الخلق‏.‏ ويحصل له المقام المحمود الذي يحمده فيه الأولون والآخرون، وأهل السماوات والأرض‏.‏ وتنال أمته من هذه الشفاعة الحظ الأوفر، والنصيب الأكمل‏.‏ ويشفع لهم شفاعة خاصة، فيشفعه الله تعالى‏.‏ وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لكل نبي دعوة تعجَّلَها‏.‏ وقد خَبَّأتُ دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة – إن شاء الله – من مات لا يشرك بالله شيئاً‏"‏، وقال‏:‏ ‏(‏أسعد الناس بشفاعتي‏:‏ من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه‏)‏‏.‏

الخامسة‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏وكان النبي‏)‏ أي‏:‏ جنس الأنبياء ‏(‏يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة‏)‏ وذلك لكمال شريعته وعمومها وسعتها، واشتمالها على الصلاح المطلق، وأنها صالحة لكل زمان ومكان‏.‏ ولا يتم الصلاح إلا بها‏.‏ وقد أسّست للبشر أصولاً عظيمة، متى اعتبروها صلحت لهم دنياهم كما صلح لهم دينهم‏.‏

 الحديث السابع والعشرون

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ ‏(‏أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم بثلاث‏:‏ صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام‏)‏ متفق عليه‏.‏

وصيته صلى الله عليه وسلم وخطابه لواحد من أمته خطاب للأمة كلها، ما لم يدل دليل على الخصوصية‏.‏

فهذه الوصايا الثلاث، من آكد نوافل الصلاة والصيام‏.‏

أما صيام ثلاثة أيام من كل شهر‏:‏ فإنه ورد أنه يعدل صيام السنة؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها‏.‏ وصيام الثلاث من كل شهر يعدل صيام الشهر كله‏.‏ والشريعة مبناها على اليسر والسهولة‏.‏ وجانب الفضل فيها غالب‏.‏ وهذا العمل يسير على من يسره الله عليه، لا يشق على الإنسان ولا يمنعه القيام بشيء من مهماته، ومن ذلك ففيه هذا الفضل العظيم؛ لأن العمل كلما كان أطوع للرب وأنفع للعبد، كان أفضل مما ليس كذلك‏.‏ وقد ثبت الحثّ على تخصيص سنة من شوال، وصيام يوم عرفة، والتاسع والعاشر من المحرم، والاثنين والخميس‏.‏

وأما صلاة الضحى‏:‏ فإنه قد تكاثرت الأحاديث الصحيحة في فضلها، واختلف العلماء في استحباب مداومتها، أو أن يغب بها الإنسان‏.‏ والصحيح‏:‏ أنه تستحب المداومة عليها لهذا الحديث وغيره إلا لمن له عادة من صلاة الليل، فإذا تركها أحياناً فلا بأس‏.‏ وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏(‏إنه يصبح على كل آدمي كل يوم ثلاثمائة وستون صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهى عن المنكر صدقة‏.‏ ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى‏)‏ قال العلماء‏:‏ أقل صلاة الضحى ركعتان، وأكثرها ثمان، ووقتها من ارتفاع الشمس قِيْدَ رمح إلى قبيل الزوال‏.‏

وأما الوتر‏:‏ فإنه سنة مؤكدة، حثّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وداوم عليه حضراً وسفراً‏.‏

وأقله‏:‏ ركعة واحدة، وإن شاءَ بثلاث، أو خمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشر ركعة‏.‏ وله أن يسردها بسلام واحد، وأن يسلم من كل ركعتين‏.‏

ووقت الوتر من صلاة العشاء الآخرة إلى طلوع الفجر والأفضل آخر الليل لمن طمع أن يقوم آخره، وإلا أوترأوله كما في هذا الحديث‏.‏